آركاديا: لعنة الخلاص | الفصل الثاني: أصداء من الأعماق

هل تُخفي الأرض سرًا أم هي النهاية؟

(بداية فورية من نهاية الفصل الأول) اقرأ الفصل الأول من أركاديا من هنا لتعرف البداية

“مش من إيه… من مين.”

ترددت كلمات آدم في الهواء المشحون بصرير صفارات الإنذار الحاد. لم يكن هناك وقت للأسئلة، ولا مجال للتردد. اخترق الضوء الأحمر الدوار ظلام المختبر، راسماً ظلالاً راقصة ومشوهة على وجوههم المتوترة. شاشة نورا كانت لا تزال تعرض رسالة التتبع المرعبة: “تحديد موقع غير مصرح به – تتبع النشاط.”

“من هنا!” صرخ آدم، وصوته بالكاد يعلو فوق الضجيج. قبضته على ذراع نورا كانت قوية، حاسمة. لم تكن مجرد محاولة للتهدئة، بل كانت سحبة قسرية نحو المجهول. جرها بعيداً عن الكرسي، بعيداً عن الشاشة التي كانت حتى لحظات مضت نافذتها الوحيدة على الحقيقة المروعة.

“البيانات! لازم آخد نسخة!” صرخت نورا، محاولة التملص من قبضته والعودة إلى الطرفية. كانت أصابعها ترتعش، وعقلها يعمل بأقصى سرعة. تلك المعلومات كانت أكثر من مجرد ملفات سرية، كانت الدليل، السلاح الوحيد الذي قد يملكونه ضد عملاق مثل “آركاديا”.

“مفيش وقت، نورا! اتحركي!” رد آدم بصرامة، عيناه تفحصان الممر خارج المختبر. رأى ظلالاً تتحرك بسرعة عند نهاية الردهة، وسمع وقع أقدام منتظمة تقترب. “هم هنا بالفعل. أي تأخير يعني النهاية.”

أدركت نورا في جزء من الثانية أنه على حق. غريزة البقاء طغت على رغبتها في تأمين الدليل. لكن عقلها كان قد بدأ بالفعل في العمل بخطة بديلة. أثناء سحبه لها، مدت يدها بسرعة مذهلة نحو جيب معطف المختبر الخاص بها، سحبت جهاز تخزين بيانات مصغر بحجم ظفر الإبهام – جهاز كانت دائماً تحمله للطوارئ – وبحركة خاطفة، لامست به منفذ USB مخفي أسفل سطح المكتب للحظة واحدة. لم تكن متأكدة إذا كان الاتصال قد تم، أو إذا كان لديها الوقت الكافي لنسخ أي شيء ذي قيمة، لكنها كانت محاولة يائسة.

“من أي طريق؟” سألت نورا، وأنفاسها تتسارع، تحاول مواكبة خطوات آدم الواسعة والسريعة.

“هنستخدم ممرات الصيانة. أنا عارف طريق محدش بيستخدمه كتير.” قادها آدم عبر باب جانبي مموه خلف خزانة ملفات ضخمة، باب لم تلاحظه نورا من قبل طوال فترة عملها هنا. انزلق الباب بصمت ليكشف عن ممر ضيق، بالكاد يتسع لشخصين، تفوح منه رائحة الغبار والمعدن الصدئ. كان الظلام دامساً، لكن آدم أخرج مصباحاً صغيراً من جيبه وأضاء الطريق أمامهما.

“إنتَ كنت مستعد لحاجة زي دي؟” همست نورا، وهي تتعثر في الظلام خلفه. رائحة العفن ملأت رئتيها.

“خلينا نقول إني كنت متوقع إن الأمور ممكن تسوء في أي لحظة.” رد آدم بصوت مكتوم، لم يلتفت إليها. “آركاديا مش المكان اللي بيسامح الفضوليين.”

كان الممر ينحدر لأسفل، وكل خطوة كانت تأخذهم أعمق في أحشاء المبنى الشاهق. أصوات صفارات الإنذار بدأت تخفت تدريجياً، واستبدلت بصوت تقطير مياه مجهولة المصدر وصرير معدني متقطع. الهواء أصبح أثقل، محملاً برطوبة لزجة.

“آدم، لازم تقولي. إنتَ تعرف إيه بالظبط؟ الفيديو ده… الراجل اللي بيتكلم… إيه اللي بيحصل تحت الأرض؟” ضغطت نورا عليه، صوتها يرتجف قليلاً ليس فقط من الخوف، بل من الغضب المكبوت. الشعور بالخيانة كان لاذعاً.

توقف آدم فجأة، واستدار ليواجهها في الضوء الخافت للمصباح. كانت عيناه تحملان صراعاً واضحاً. “نورا، أنا مش عدوك. صدقيني. أنا عرفت حاجات بالصدفة، سمعت همسات، شفت تقارير المفروض متوصلنيش. حاجات خلتني أشك.”

“تشك في إيه؟ إن الشركة اللي بنشتغل فيها بتستخدم الكوكب كـ… كمكنسة كهربائية عملاقة بتشفط التلوث وتخبيه في حتة تانية؟ وإن الحتة دي… فيها حاجة بتصحى؟” واجهته نورا، كلماتها تخرج حادة كالشظايا.

تنهد آدم بعمق، مرر يده على وجهه المتعب. “مكنتش أعرف التفاصيل دي كلها. كنت فاكر إنهم بيعملوا حاجة… غير أخلاقية يمكن، تلاعب في الأرقام علشان يظهروا نجاح أكبر، يمكن تكنولوجيا خطيرة شوية ليها آثار جانبية بيخبّوها. لكن اللي شفتيه في الملف ده… اللي سمعتيه في الفيديو… ده أبعد بكتير من أي حاجة تخيلتها.”

“الراجل اللي في الفيديو… تعرفه؟” سألت نورا، تتمسك بأي خيط أمل.

تردد آدم للحظة. “مش شخصياً. بس الاسم… دكتور آرلين فينشر… سمعته قبل كده. كان عالم جيولوجي لامع انضم لآركاديا من حوالي سنتين، وبعدين اختفى فجأة. قالوا إنه أخد إجازة طويلة لأسباب صحية. محدش سأل بعد كده.”

“اختفى… زي ما ممكن نختفي إحنا دلوقتي؟” قالت نورا، والبرودة التي شعرت بها عند قراءة التقرير عادت لتزحف في أوصالها.

“بالظبط.” قال آدم بجدية قاتمة. “دلوقتي لازم نركز على الخروج من هنا. الكلام بعدين.”

استأنفا المسير في الممرات المتشابكة. كانت أشبه بمتاهة خرسانية ومعدنية. في بعض الأحيان، كانوا يسمعون أصواتاً بعيدة – وقع أقدام، أوامر تُصرخ عبر أجهزة اتصال، همهمة محركات مجهولة – فيتوقفان فوراً، يطفئ آدم المصباح، وينتظران في الظلام الدامس وقلوبهما تدق بعنف حتى يزول الخطر.

كانت نورا، رغم الخوف الذي يجمد أطرافها، تحاول استغلال خبرتها التقنية. جهاز التخزين الصغير كان لا يزال في يدها. أخرجت هاتفها الشخصي القديم – جهاز غير متصل بشبكة آركاديا الداخلية، كانت تحتفظ به كإجراء احترازي – وحاولت توصيل جهاز التخزين به باستخدام محول صغير كانت تحمله أيضاً. شاشة الهاتف أضاءت بضوء خافت. بدأت عملية نقل بيانات بطيئة ومتقطعة. لم تكن تعرف ماذا نسخت، إن كانت نسخت شيئاً أصلاً، لكنها كانت فرصتها الوحيدة.

“إيه اللي بتعمليه ده؟” سأل آدم بصوت حاد، لاحظ الضوء المنبعث من يدها.

“بحاول أنقذ أي حاجة قدرت أنسخها. لو معرفناش نهرب بالمعلومات دي في دماغنا، على الأقل ممكن تكون معانا نسخة.”

نظر إليها آدم بنظرة معقدة، مزيج من الإعجاب والقلق. “إنتي فعلاً مش ناوية تستسلمي، مش كده؟”

“هما بدأوا الحرب دي، آدم. مش إحنا.” ردت نورا بثبات، وعيناها مثبتتان على شريط التقدم البطيء على شاشة هاتفها.

بعد ما بدا وكأنه دهر من السير في الممرات الخانقة، وصلا أخيراً إلى سلم معدني صدئ يمتد للأسفل في بئر مظلمة.

“ده بيودي فين؟” سألت نورا، وهي تنظر إلى السواد الذي لا قرار له في الأسفل.

“نظام الصرف القديم للمدينة. قبل ما آركاديا تبني فوق كل حاجة. هو خطر، ومقرف، بس محدش هيفكر يدور علينا هنا.” قال آدم، وبدأ بالنزول بحذر. “خليكي ورايا بالظبط، وامسكي كويس.”

تبعته نورا، وكل درجة نزول كانت تأخذها أبعد عن عالم التكنولوجيا المعقمة لآركاديا وأعمق في واقع المدينة المنسي والمتهالك تحتها. رائحة الصرف الصحي كانت نفاذة، ممزوجة برائحة كيميائية غريبة لم تستطع تحديدها. كان الهواء بارداً ورطباً بشكل مقزز.

عندما وصلت أقدامهما أخيراً إلى أرضية النفق الموحل، أضاء آدم مصباحه ليكشف عن مشهد كئيب. نفق واسع، تتساقط المياه من سقفه المتصدع، وتغطي جدرانه طبقة لزجة من الطحالب والأوساخ. المياه القذرة كانت تجري ببطء في قناة مركزية، حاملة معها كل أنواع الحطام.

“أهلاً بيكي في العالم الحقيقي، نورا.” قال آدم بسخرية مريرة.

نورا نظرت حولها باشمئزاز وقلق. “هنروح فين من هنا؟”

“فيه مخرج للطوارئ المفروض يؤدي لمنطقة الأطلال الصناعية القديمة على بعد حوالي كيلومترين من هنا. منطقة محدش بيدخلها تقريباً. نقدر نختبئ هناك مؤقتاً ونفكر في الخطوة الجاية.” شرح آدم، وهو يتفحص خريطة قديمة على جهاز لوحي صغير أخرجه من حقيبة كان يحملها على ظهره ولم تلاحظها نورا من قبل.

“إنتَ معاك حقيبة وخريطة؟ إنتَ كنت مخطط لكل ده؟” سألت نورا، وشعور عدم الارتياح تجاهه يتزايد.

“قلت لكِ، كنت متوقع الأسوأ.” رد آدم دون أن يرفع عينيه عن الخريطة. “دي حقيبة طوارئ دايماً في مكتبي. فيها أساسيات: مياه، طعام مجفف، أدوات إسعافات أولية، بعض الأدوات التقنية، والخريطة دي للممرات السفلية.”

“وليه مقلتليش أي حاجة قبل كده؟ ليه سبتني أدور لوحدي؟”

توقف آدم عن النظر في الخريطة وواجهها مباشرة. “لأني كنت خايف عليكي! ولأني كنت خايف على نفسي! كل ما تعرفي أكتر، كل ما الخطر يزيد. كنت بحاول أفهم حجم المشكلة الأول قبل ما أورطك فيها. بس إنتي… إنتي أسرع مما توقعت.”

صمتت نورا، كلماته بدت صادقة، لكن الشكوك كانت لا تزال تنهشها. هل كان يحميها حقاً، أم كان جزءاً من لعبة أكبر لم تفهمها بعد؟

بدآ يسيران بحذر في النفق المظلم، يتجنبان البرك العميقة والحطام المتناثر. الصوت الوحيد كان خرير المياه وصوت خطواتهما المكتومة في الوحل، بالإضافة إلى دقات قلبيهما المتصاعدة.

بعد حوالي نصف ساعة من السير المضني، توقف آدم فجأة ورفع يده كإشارة لنورا بالتوقف. أطفأ المصباح.

“سامعة ده؟” همس.

أنصتت نورا بكل حواسها. في البداية لم تسمع سوى صوت المياه، لكن بعد لحظات، ميزت صوتاً آخر، قادماً من الأمام. همهمة منخفضة، غير منتظمة، تشبه… احتكاك صخور ببعضها البعض، أو حركة شيء ضخم تحت الأرض. لم يكن صوتاً ميكانيكياً، بل بدا… عضوياً.

“إيه الصوت ده؟” همست نورا، وشعرت بشعر ذراعيها يقف.

“مش عارف.” رد آدم، وصوته كان مشوباً بقلق حقيقي. “بس ده مش طبيعي.”

تقدم آدم ببطء شديد، وأعاد إضاءة المصباح بحذر، موجهاً شعاعه نحو مصدر الصوت. ما رأوه جعل دماءهما تتجمد في العروق.

الجدار الجانبي للنفق كان متصدعاً بشكل كبير في تلك المنطقة، ومن خلال الشقوق كانت تتسرب مادة لزجة، داكنة، تشبه القطران، لكنها كانت تتحرك ببطء، تتمدد وتنكمش بشكل إيقاعي خافت، مصاحبة لصوت الاحتكاك المخيف الذي سمعوه. لم تكن مجرد مادة، بل كانت تبدو وكأنها… تتنفس.

“ده… ده مش ممكن يكون…” تمتمت نورا، عقلها يرفض تصديق ما تراه عيناها. هل هذه هي “الحاجة اللي بدأت تتحرك” التي ذكرها دكتور فينشر في الفيديو؟ هل هي جزء من التلوث المُحوَّل الذي يُضخ تحت الأرض؟

“لازم نمشي من هنا. بسرعة.” قال آدم، وصوته يرتجف قليلاً هذه المرة. جذب نورا بعيداً عن الجدار المتصدع، وزاد من سرعتهما.

الصوت والمنظر المرعب دفعاهما للسير بشكل أسرع، الخوف يمنحهما طاقة جديدة. لكن بعد عدة دقائق، بدأ آدم يسعل. في البداية كانت سعلة خفيفة، لكنها سرعان ما اشتدت، وتحولت إلى نوبة سعال عنيفة جعلته يتوقف وينحني، ممسكاً بصدره.

“آدم! إنتَ كويس؟” سألت نورا بقلق، وهي تربت على ظهره.

“الهوا… الهوا هنا… ملوث أكتر من اللازم.” قال بصعوبة بين نوبات السعال. “يمكن… يمكن فيه تسرب غازات من المادة دي.”

أدركت نورا أنهم في خطر أكبر مما تصوروا. ليس فقط من مطاردة آركاديا، بل من البيئة السامة التي يحاولون الهرب خلالها. أخرجت من حقيبة آدم قناعي تنفس بسيطين، وارتدت واحداً وأعطت الآخر لآدم. ساعده القناع قليلاً، لكن سعاله لم يتوقف تماماً.

“لازم نلاقي المخرج ده قريب.” قالت نورا، وهي تسنده وتساعده على المشي.

أخيراً، بعد ما بدا وكأنه وقت لا نهائي، رأوا ضوءاً خافتاً في نهاية النفق. لم يكن ضوءاً طبيعياً، بل ضوءاً صناعياً متقطعاً.

“ده هو.” قال آدم بصوت أجش، مشيراً إلى سلم آخر يصعد نحو الأعلى.

صعدا السلم بحذر، وكلما اقتربا من الفتحة، كلما أصبحت الأصوات الخارجية أوضح. لم تكن أصوات مدينة صاخبة، بل أصوات رياح تعوي عبر هياكل معدنية متداعية، وصرير حديد صدئ.

دفع آدم غطاء فتحة ثقيلاً وصدئاً، وصعدا إلى ما كان يوماً ما مصنعاً ضخماً. السقف كان منهاراً في أجزاء كبيرة، كاشفاً عن سماء رمادية كئيبة تلوح في الأفق. الآلات الضخمة كانت خردة متآكلة، والهياكل المعدنية مغطاة بالصدأ ونباتات متسلقة غريبة الشكل ذات ألوان باهتة. الغبار يملأ المكان، والهواء يحمل رائحة المعادن والزيوت القديمة والتفكك.

“منطقة الأطلال الصناعية.” همس آدم، وهو يتنفس بصعوبة أقل في الهواء الطلق نسبياً، رغم تلوثه الواضح. “محدش بيجي هنا. خطر جداً بسبب عدم استقرار المباني… والتلوث الكيميائي المتبقي.”

جلست نورا على قطعة خرسانية متداعية، تشعر بإرهاق جسدي وعقلي هائل. نظرت إلى آدم، الذي كان لا يزال يسعل بشكل متقطع، وجهه شاحب تحت ضوء النهار الرمادي الباهت.

“آدم، لازم نتكلم بجد.” قالت نورا بصوت هادئ لكن حازم. “مفيش أسرار تاني. أنا شفت اللي شفته، وإنتَ اعترفت إنك تعرف حاجات. لازم أعرف كل حاجة. لازم أعرف إحنا بنواجه إيه بالظبط.”

جلس آدم مقابلها، وأنزل حقيبته أرضاً. نظر إليها طويلاً، وكأنما يزن كلماته بعناية فائقة.

“ماشي يا نورا. هقولك اللي أعرفه. بس لازم توعديني إنك هتسمعي للآخر… وإنك هتفهمي إن الموضوع أعقد بكتير مما يبدو.”

أومأت نورا برأسها، قلبها يخفق بترقب ممزوج بالخوف.

بدأ آدم يتكلم، وصوته كان منخفضاً، كأنه يخشى أن تسمعه الجدران المتهالكة نفسها.

“آركاديا… مش مجرد شركة تكنولوجيا بيئية. هي واجهة. واجهة لمجموعة… خلينا نقول… مصالح قوية جداً. ناس مؤمنين بأن الكوكب ده محكوم عليه بالفناء، وإن البشرية عشان تستمر، لازم تتغير… أو يتم تغييرها.”

“يعني إيه ‘يتم تغييرها’؟” سألت نورا، وشعرت بقشعريرة تسري في جسدها.

“المشروع اللي اكتشفتيه… ‘إعادة التوازن’… هو ليه اسم تاني سري جوه الدواير العليا: مشروع ‘كايميرا’.”

“كايميرا؟ زي الوحش الأسطوري؟”

“بالظبط. خليط من حاجات مختلفة. هما مش بس بينقلوا التلوث لمكان تاني. هما بيستخدموا التلوث ده كـ… وقود حيوي… لتغذية حاجة تانية. حاجة كانوا بيطوروها في السر لسنين طويلة.”

“إيه هي الحاجة دي؟ المادة اللزجة اللي شفناها في النفق؟”

“أعتقد إن دي مجرد… تسرب. عرض جانبي. الشيء الحقيقي… أكبر بكتير. دكتور فينشر كان واحد من اللي اكتشفوا الأثر الجانبي ده. إن الأرض نفسها… أو حاجة جوه الأرض… بتتفاعل مع العملية دي بطريقة غير متوقعة. كأنهم صحّوا عملاق نايم.”

“والقيادة في آركاديا… يعرفوا بده؟”

“أيوة. ده الجزء المرعب. في البداية كانوا قلقانين، حاولوا يبطّأوا العملية. لكن بعدين… ظهرت بيانات جديدة. اكتشفوا إن ‘الكيان’ ده اللي بيتغذى على التلوث… بينتج طاقة هائلة كمنتج ثانوي. طاقة نظيفة، وقوية بشكل لا يصدق. أكتر بكتير من أي مصدر طاقة عرفناه.”

اتسعت عينا نورا بصدمة. “يعني هما… مستمرين في العملية دي عمداً؟ حتى لو كانت بتوقظ وحش تحت الأرض؟ علشان الطاقة؟”

“مش بس الطاقة، نورا.” قال آدم، وانحنى للأمام، صوته أصبح همساً مكثفاً. “التقارير اللي لمحتها بتقول إن الكيان ده… ليه خصائص حيوية فريدة. قدرة على التكيف، على التجدد… حتى على تغيير البيئة المحيطة بيه على المستوى الجزيئي. البعض في القيادة العليا بدأ يشوف فيه مش تهديد… لكن فرصة.”

“فرصة لإيه؟!” صرخت نورا تقريباً، غير مصدقة.

“فرصة لتجاوز حدود البيولوجيا البشرية. فرصة لخلق… مرحلة جديدة من التطور. بشر متكيفين مع الكوكب الملوث، بشر قادرين على استخدام الطاقة دي. كايميرا… مش بس اسم المشروع، ده هدفهم النهائي. دمج البشر مع الكيان ده بطريقة ما.”

شعرت نورا بالغثيان. الفكرة كانت بشعة، غير إنسانية. “ده جنون! ده… ده تدمير للذات!”

“هما مسميين ده ‘الخلاص’. السبيل الوحيد لبقاء جنسنا في عالم بيموت.” قال آدم بمرارة. “وأي حد يقف في طريقهم… زي دكتور فينشر… بيختفي.”

“ومين هما ‘هما’ دول بالظبط؟ مين اللي ورا كل ده؟”

“القيادة العليا غامضة جداً. بس فيه اسم واحد بيتردد دايماً في الهمسات… ‘المهندس’. محدش يعرف اسمه الحقيقي، أو شكله حتى. بيقولوا إنه العقل المدبر ورا كل حاجة. هو اللي صمم المولدات الحيوية، وهو اللي أسس آركاديا من البداية بفلسفتها دي.”

“المهندس…” رددت نورا الاسم، وكأنها تتذوق طعمه المر. “هو ده الـ ‘مين’ اللي كنا بنهرب منه؟”

“هو… وشبكة الأمن والمراقبة اللي بناها. شبكة بتتغلغل في كل حتة. عشان كده لازم نكون حذرين جداً.”

في تلك اللحظة، وبينما كانا يتحدثان، سمعا صوتاً جديداً يختلف عن عواء الرياح وصرير المعدن. صوت طنين منخفض ومستمر، يقترب بسرعة.

رفع آدم رأسه فجأة، عيناه متسعتان بالإنذار. “درون!”

نظر الاثنان إلى السماء الرمادية من خلال فتحة في السقف المنهار. شاهدوا طائرة بدون طيار صغيرة، سوداء اللون، تحوم فوق المصنع المهجور، كاميرتها تتحرك وتفحص المكان بدقة.

“شافتنا!” صرخ آدم. “لازم نتحرك! دلوقتي!”

نهضا بسرعة، الرعب يجري في عروقهما من جديد. لم يكونا آمنين حتى في هذا المكان المعزول. شبكة “المهندس” كانت تصل إلى كل مكان.

“فين هنروح؟” سألت نورا، وهي تجري خلف آدم بين أكوام الخردة والأنقاض.

“مش عارف! لازم نلاقي مكان نختفي فيه عن المراقبة الجوية!”

اندفعا نحو جزء من المصنع كان لا يزال سقفه سليماً نسبياً، ودخلا إلى ممر ضيق بين آلتين ضخمتين صدئتين. توقفا للحظة، يلهثان، يستمعان إلى صوت الدرون الذي أصبح الآن فوقهما مباشرة.

فجأة، سمعا صوتاً آخر. ليس من الأعلى، بل من مكان قريب على مستوى الأرض. صوت حطام يتساقط، وخطوات حذرة بين الأنقاض. لم يكونا وحدهما في المصنع.

تبادل آدم ونورا النظرات، الخوف تضاعف. هل هم أمن آركاديا؟ أم شيء آخر؟

أشار آدم لنورا بالبقاء خلفه، وسحب شيئاً من حقيبته. لم يكن سلاحاً نارياً، بل قضيباً معدنياً قصيراً وثقيلاً. تقدم ببطء وحذر نحو مصدر الصوت، ونورا تتبعه عن كثب، قلبها يكاد يقفز من صدرها.

وصلا إلى نهاية الممر الضيق، ونظرا بحذر من خلف الآلة الضخمة. ما رأوه لم يكن جنوداً مدججين بالسلاح من آركاديا. بل كانت مجموعة من ثلاثة أشخاص يرتدون ملابس رثة وممزقة، وجوههم مغطاة بالغبار والأوساخ، يتحركون بخفة وحذر بين الأنقاض، أعينهم تفحص المكان بقلق، وكأنهم هم أيضاً يختبئون من شيء ما. كانوا يبحثون عن شيء ما، يلتقطون قطعاً صغيرة من الخردة، ويفحصونها بسرعة قبل وضعها في أكياس قماشية بالية.

“زبالين…” همس آدم بارتياح نسبي. “ناس عايشين على جمع الخردة من الأنقاض.”

لكن قبل أن يتمكنوا من التراجع بهدوء، داست نورا على قطعة معدنية صغيرة أحدثت صريراً حاداً في الصمت النسبي للمكان.

تجمد الزبالون الثلاثة في أماكنهم، ثم استداروا بسرعة نحو مصدر الصوت، أعينهم متوجسة. لم يكونوا عزلاً تماماً؛ كان أحدهم يحمل أنبوباً معدنياً طويلاً، والثاني يمسك بسكين صدئة كبيرة.

“مين هناك؟” صاح أحدهم بصوت أجش وخشن، يملؤه الشك والعداء.

وقف آدم ونورا في العراء الآن، أيديهما مرفوعة قليلاً كعلامة على عدم العداء.

“إحنا… إحنا مش عايزين مشاكل.” قال آدم بهدوء، محاولاً أن يبدو غير مهدد قدر الإمكان. “إحنا بس بنعدي من هنا.”

نظر الزبالون إليهما من الأعلى للأسفل، ملاحظين ملابسهما النظيفة نسبياً مقارنة بهم، ولاحظوا التكنولوجيا التي يحملانها (هاتف نورا، جهاز آدم اللوحي). نظراتهم أصبحت أكثر حدة.

“بتعدوا؟ محدش ‘بيعدي’ من المنطقة دي إلا لو كان هربان من حاجة… أو بيدور على حاجة.” قال الرجل ذو الأنبوب المعدني، وهو يتقدم خطوة نحوهما. “وإنتو شكلكم مش من هنا.”

“أرجوكم، إحنا بس محتاجين مكان آمن مؤقتاً.” قالت نورا بسرعة، وصوتها يرتجف قليلاً. “فيه ناس بتطاردنا.”

ضحك الرجل الآخر ذو السكين ضحكة جافة خالية من المرح. “كلنا هنا هربانين من حاجة يا حلوة. بس ده مش معناه إننا بنساعد أي حد.”

“إنتو شكلكم من ‘آركاديا’.” قال الثالث، الذي كان يبدو أصغر سناً لكن نظرته كانت الأكثر قسوة. “ريحتكم زي ريحتهم. ريحة النضافة الكدابة.”

“كنا بنشتغل هناك، بس هربنا!” قال آدم بسرعة. “اكتشفنا حاجات… حاجات خطيرة بيعملوها. هما بيدوروا علينا دلوقتي.”

نظر القائد الظاهر للمجموعة (صاحب الأنبوب) إلى الدرون التي كانت لا تزال تحوم في الأعلى، ثم عاد بنظره إلى آدم ونورا. بدا وكأنه يفكر.

“الطيارة دي بتدور عليكم إنتو؟” سأل.

“أيوة.” أكدت نورا.

“ولو لقيتكم هنا، هتجيب أصحابها وراها. وده معناه مشاكل لينا إحنا كمان.” قال الرجل، وكأنه يتحدث مع نفسه. ثم نظر إليهما بحدة. “إيه المعلومات اللي عندكم؟ تستاهل المخاطرة؟”

تردد آدم. هل يمكن الوثوق بهؤلاء الغرباء؟ لكن الدرون كانت لا تزال تحوم، ولم يكن لديهم خيارات كثيرة.

“معلومات ممكن تدمر آركاديا كلها.” قالت نورا بجرأة، ناظرة مباشرة في عيني الرجل. “معلومات عن اللي بيعملوه تحت الأرض.”

تغيرت نظرة الرجل قليلاً. ظهر بريق اهتمام في عينيه المتعبتين. “تحت الأرض…” ردد الكلمتين ببطء، وكأنهما يعنيان له شيئاً. “سمعنا إشاعات… أصوات غريبة… هزات خفيفة محدش عارف سببها.”

“دي مش إشاعات.” قالت نورا. “ده حقيقي. وآركاديا هي السبب.”

صمت الرجل للحظة، يدرس وجهيهما. ثم اتخذ قراره.

“ورايا.” قال ببساطة، واستدار. “بس لو حسيت للحظة إنكم بتكدبوا أو هتعرضونا للخطر… هسيبكم للطيارة دي تاكلكم.”

تبعه آدم ونورا بسرعة، بينما أشار الرجل لرفيقيه بالبقاء في الخلف ومراقبة الأجواء. قادهم الرجل عبر ممرات أكثر تداعيًا وخطورة داخل المصنع، وصولاً إلى فتحة في الأرضية كانت مخفية تحت كومة من الأقمشة الممزقة.

“انزلوا.” أمرهم. “ده جزء من شبكة أنفاق تانية غير الصرف الصحي. أنفاق خدمية قديمة للمصنع. نقدر نتحرك فيها من غير ما الطيارات تشوفنا.”

نزلا إلى الظلام مرة أخرى، وهذه المرة كان النفق أضيق وأكثر اختناقاً من سابقه، لكنه كان جافاً. الرجل، الذي عرف عن نفسه باسم “ريكس”، أشعل مصباح زيت قديماً أضاء المكان بضوء أصفر متردد.

“آركاديا…” قال ريكس وهو يسير أمامهم. “بنت عالمها فوق أنقاض عالمنا. وعدوا بالجنة، بس كل اللي شفناه هو توسعهم زي السرطان، ودفعنا إحنا أبعد وأبعد في الظل.”

“إنتو عايشين هنا على طول؟ في الأنقاض دي؟” سألت نورا، وهي تنظر حولها إلى الجدران المتآكلة.

“ده بيتنا. مش مكان كويس، بس على الأقل بعيد عن عينيهم… في الغالب.” رد ريكس بمرارة. “بنعيش على اللي بنلاقيه. خردة، أكل منتهي الصلاحية بنلاقيه في المخازن القديمة، أي حاجة ليها قيمة في السوق السودا اللي تحت.”

“السوق السودا؟” سأل آدم باهتمام.

“كل مدينة ليها قاع يا باشمهندس.” قال ريكس بسخرية. “وقاع مدينتنا دي… مليان أسرار أكتر مما تتخيل. ناس زينا، هربانين، منشقين، تجار معلومات… أي حد مش عايز آركاديا تعرف بوجوده.”

“ممكن نلاقي مساعدة هناك؟” سألت نورا بأمل.

“المساعدة في القاع ليها تمن دايماً، يا آنسة. وممكن التمن يكون أغلى من اللي تقدروا تدفعوه.” قال ريكس بتحذير. “بس لو المعلومات اللي عندكم دي حقيقية وقوية زي ما بتقولوا… يمكن تلاقوا ناس مستعدة تسمع. ناس ليها حسابات قديمة مع آركاديا.”

سارا في صمت لبعض الوقت، كل منهم غارق في أفكاره. نورا كانت تحاول استيعاب كل ما حدث وكل ما سمعته. من مجرد شكوك حول بيانات بيئية إلى مؤامرة عملاقة لتغيير مستقبل البشرية ووحش ينمو تحت أقدامهم. وآدم، الذي كان يخفي أسراراً أكثر مما اعترف به، والذي يبدو الآن أكثر هشاشة وضعفاً مما بدا عليه في برج آركاديا الزجاجي. وريكس، ممثل عالم كامل من المنسيين الذين يعيشون في ظلال وعود آركاديا الكاذبة.

فجأة، توقف ريكس ورفع يده مرة أخرى. “استنوا.”

صمتوا جميعاً، وأرهفوا السمع. هذه المرة لم يكن صوت درون أو آلات. كان صوتاً بشرياً. أصوات متعددة، مكتومة، قادمة من الأمام، ومعها… صوت بكاء طفل.

“فيه حد تاني هنا.” همس ريكس بقلق. “وده مش طبيعي. المنطقة دي المفروض مهجورة تماماً.”

تقدموا بحذر شديد، وأطفأ ريكس مصباح الزيت. اعتمدوا على الضوء الخافت جداً الذي كان يتسلل من شقوق بعيدة في السقف. وصلوا إلى منعطف في النفق، ونظر ريكس بحذر.

ما رآه جعله يتراجع بسرعة، ووجهه شاحب.

“إيه؟ شفت إيه؟” سأل آدم بهمس.

“دوريات… بس مش دوريات آركاديا اللي نعرفها.” قال ريكس، وصوته يرتجف بشكل واضح. “لابسين بدل سودا غريبة… ومعاهم أجهزة أول مرة أشوفها. ومعاهم… أقفاص.”

“أقفاص؟” رددت نورا بعدم فهم.

“وفي واحد من الأقفاص… فيه طفل بيبكي.” أكمل ريكس، ونظرة رعب حقيقي في عينيه. “وشكلهم مش جايين ينقذوه.”

قبل أن يتمكن أي منهم من استيعاب هذه المعلومة المرعبة الجديدة، سمعوا صوتاً حاداً وعالياً قادماً من اتجاه الدورية. صرخة ألم مفاجئة، تلاها صوت يشبه تفريغ شحنة كهربائية عالية، ثم… صمت مطبق. حتى بكاء الطفل توقف.

شعر ثلاثتهم ببرودة جليدية تسري في أجسادهم. هؤلاء ليسوا مجرد زبالين أو أمن عادي. هؤلاء شيء آخر. شيء أكثر خطورة وتنظيماً.

“دول أكيد تبع ‘المهندس’.” همس آدم، وصوته بالكاد مسموع. “القوات الخاصة بتاعته يمكن.”

“وليه يخطفوا طفل؟” تساءلت نورا بصوت مختنق بالرعب.

“مش يمكن بيخطفوه…” قال ريكس ببطء، وعيناه زائغتان. “يمكن… بيجمعوا عينات؟”

كلمة “عينات” ترافقت مع ما قاله آدم عن مشروع “كايميرا” وهدف دمج البشر مع الكيان السفلي، ورسمت صورة مروعة في ذهن نورا. هل بدأت آركاديا بالفعل في تجاربها على البشر؟ هل هذا هو الثمن الحقيقي لـ “إعادة التوازن”؟

أدركت نورا في تلك اللحظة أن الهروب من برج آركاديا لم يكن نهاية المطاردة، بل كان مجرد البداية. الخطر لم يكن فقط من آركاديا كشركة، بل من الفلسفة الملتوية والمجنونة التي تقودها، ومن الأفراد المستعدين لفعل أي شيء لتحقيق أهدافهم. وأن الوحش الحقيقي قد لا يكون فقط هو ما ينمو تحت الأرض، بل أيضاً ما يسير فوقها، مرتدياً بدلة سوداء ويحمل أقفاصاً.

“لازم نخرج من الأنفاق دي فوراً.” قال ريكس بحزم مفاجئ، قاطعاً صمتهم المشحون بالخوف. “لو الناس دي بتجوب الأنفاق، فمفيش مكان آمن تحت الأرض. لازم نرجع للسطح، ونلاقي طريقة للاختفاء في المدينة نفسها.”

“بس الدرون…” بدأ آدم بالاعتراض.

“هنخاطر.” قاطعه ريكس. “الخطر فوق أقل من الخطر اللي ممكن يكون مستنينا هنا تحت مع الناس دي.” نظر إلى نورا وآدم. “المعلومات اللي عندكم… بقت أهم بكتير دلوقتي. لو هما بيعملوا تجارب على الناس… لازم حد يوقفهم.”

تحركوا بسرعة، عائدين في نفس الطريق الذي أتوا منه، لكن هذه المرة بخوف مختلف، أكثر عمقاً وشمولاً. لم يعد الأمر مجرد هروب شخصي، لقد أصبح سباقاً ضد الزمن لكشف حقيقة مرعبة قد تلتهم مستقبل البشرية بأكمله.

وصلوا إلى فتحة أخرى تؤدي إلى السطح، في جزء مختلف من منطقة الأطلال، داخل مستودع ضخم شبه مظلم. استرق ريكس النظر بحذر. السماء كانت لا تزال رمادية، لكن صوت الدرون لم يعد مسموعاً في الجوار المباشر.

“الجو شكله آمن مؤقتاً.” همس. “لازم نتحرك بسرعة وبحذر. فيه منطقة سكنية عشوائية مش بعيدة من هنا، اسمها ‘المتاهة’. نقدر نختفي وسط الزحمة هناك لو وصلنا لها.”

خرجوا من المستودع إلى الهواء الطلق الملوث، وبدأوا يتحركون بخفة بين المباني المتهالكة، أعينهم تفحص السماء والأزقة المظلمة باستمرار. الصمت كان ثقيلاً، ولم يقطعه سوى صوت خطواتهم الحذرة على الأنقاض والرياح التي كانت تحمل معها غباراً وبقايا من عالم يحتضر.

نورا نظرت إلى جهاز التخزين الصغير في يدها، ثم إلى هاتفها الذي كانت عملية نقل البيانات قد اكتملت عليه بصعوبة. لم تكن تعرف حجم أو أهمية ما حصلت عليه، لكنها شعرت بثقل مسؤوليته الهائلة. لم تعد مجرد مهندسة بيئية تحاول كشف تلاعب في الأرقام. لقد أصبحت الآن هاربة، شاهدة على فظائع، وحاملة لأسرار يمكن أن تغير كل شيء… أو تقتلها ومن معها.

وبينما كانوا يختفون في ظلال الأنقاض متجهين نحو المجهول في “المتاهة”، لم تكن نورا تدرك أن الدرون لم تكن التهديد الوحيد الذي يراقبهم من الأعلى. في مكان بعيد، داخل غرفة تحكم أكثر تطوراً بكثير من أي شيء في برج آركاديا الرئيسي، كان “المهندس” يراقب نقطتين حمراوين تتحركان على خريطة ثلاثية الأبعاد للمدينة. لم تكن ملامح وجهه واضحة في الظل، لكن ابتسامة باردة وخافتة ارتسمت على شفتيه.

“لقد خرجوا من الشبكة المتوقعة…” تمتم بصوت هادئ ومعدني تقريباً. “وأخذوا الطُعم. مثير للاهتمام.”

ضغط على زر على لوحة التحكم أمامه. “فعلوا البروتوكول ‘كايروس’. أريد متابعة حية لتحركاتهم. لا تقبضوا عليهم بعد. دعوهم يقودوننا… إلى الآخرين.”

الهروب كان مجرد بداية. لكن بداية ماذا تحديداً؟ وأي لعبة حقيقية ذات قواعد مميتة كانت قد بدأت للتو، بينما كانت نورا وآدم يسيران مباشرة نحو فخ أكبر وأكثر تعقيداً مما يمكنهما تخيله؟ أي شبكة خفية نسجها لهم “المهندس” في أزقة “المتاهة” الملتوية، وهل كان ريكس، مرشدهم الجديد، مجرد بيدق فيها أم الطُعم نفسه؟

والأصداء القادمة من الأعماق… لم تكن فقط من الكيان الغامض المتنامي تحت الأرض، بل من ماضي “آركاديا” المظلم أيضاً. فما هي الأسرار الدفينة التي لم تُكشف بعد؟ وما هي التحذيرات التي ضاعت في صمت ضحايا سابقين؟ والأهم، ما هو الشكل الدقيق لذلك المستقبل المرعب الذي تخطط له “آركاديا” خلف واجهتها البراقة، وهل اقتربت نورا وآدم دون قصد من أن يصبحا أولى عينات تجاربه المروعة؟

لقد دخلوا اللعبة الآن، لكن هل يمكنهم فهم قواعدها قبل فوات الأوان، أم أنهم مجرد دمى تتحرك خيوطها من الظل نحو نهاية حتمية؟ هذا ما ستتابعه في الفصل الثالث من القصة .

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

نعتذر ممنوع نسخ محتوى أطياف