صرخة على وش الميه: ليلة الرعب مع النداهة

همسات ليلية في قرية النخيل.. النداهة : هل تجرؤ على سماع صوتها القاتل؟

قرية “كفر النخيل”، اسم على مسمى. بيوت طين واطية متلملمة حوالين بعضها كأنها خايفة من الفُرقة، محاوطة بترعة “المبروكة” اللي بتلف حواليها زي تعبان طويل نعسان. الميه فيها مش دايمًا صافية، لونها مايل للخضرة الطينية، وبالليل، لما القمر يبقى بدر كامل، سطح الميه بيلمع لمعة غريبة، تخلي اللي يبص فيه قلبه يتخض.

في كفر النخيل، الشمس ليها هيبة والنهار ليه صخب الفلاحين وهم رايحين جايين في الغيطان، لكن لما الليل يرخي سدوله، الدنيا بتبقى سكات، سكات تقيل ومخيف، مابيقطعوش غير نباح الكلاب الضالة من بعيد، أو صوت صراصير الليل اللي كأنها بتعزف لحن جنايزي محدش فاهمه. أهل البلد، كبار وصغيرين، بيستخبوا في بيوتهم بدري، الشبابيك بتتقفل والبيبان بتتربس. مش خوف من الحرامية… لا، الخوف هنا نوع تاني، خوف قديم، متوارث، خوف اسمه “النداهة”.

أسطورة النداهة في كفر النخيل مش مجرد حكاية قبل النوم. دي جزء من الهوا اللي بيتنفسوه. بيقولوا إنها جنية جميلة بتظهر على وش الميه في الترعة بالليل، بصوتها الحلو بتنادي على الرجالة بالاسم، اللي يسمع نداءها وينجذب ليه، يبقى اتكتبت نهايته. يا إما يلاقي نفسه تاني يوم غرقان في الترعة، يا إما يرجع عقله طاير، بيهذي ومش عارف هو مين ولا فين. الحكايات كترت، ناس اختفت، وناس رجعت مجنونة، وكل أصابع الاتهام بتشاور على الترعة… وعلى النداهة.

في قلب القرية دي، كان عايش شاب اسمه “عصام”. عصام ده كان ابن بلد أصيل، فلاح زي أبوه وجده، أرضه هي عرضه، وعضلاته مفتولة من شقى الفلاحة. قلبه كان جامد، مبيخافش بسهولة، وبيعتبر حكايات النداهة دي مجرد “تخاريف” ستات كبار، بيقولها الأجداد عشان يخوفوا العيال ومحدش يقرب من الترعة بالليل ويغرق. عصام كان ليه صاحب عمره، “سعيد”، ابن خاله وشريكه في حتة أرض صغيرة على طرف البلد، جنب الترعة بالظبط. سعيد، على عكس عصام، كان قلبه رهيف شوية، وبيصدق في حكايات النداهة، أو على الأقل، بيخاف منها.

قصتنا بتبدأ في ليلة صيف حارة، من ليالي شهر أغسطس اللي الهوا فيها بيبقى واقِف، والقمر بدر منور السما كأنه عين صفرا كبيرة بتبص على الدنيا.

(المشهد الأول)

الوقت: بعد منتصف الليل بقليل.

المكان: حقل ذرة صغير متاخم لترعة المبروكة.

(الليل ساكن تمامًا، نسمة هوا خفيفة بتحرك عيدان الذرة وتعمل صوت حفيف يشبه الهمس. ضوء القمر الفضي بيغطي الحقل والترعة ببريق غامض. عصام وسعيد قاعدين على حافة الأرض، جنب ساقية قديمة وقفت عن الدوران من سنين. باين عليهم التعب، هدومهم معفرة بالطين والعرق بيلمع على جبينهم.)

سعيد: (بيمسح جبينه بكم جلابيته)

ياااه يا عصام، أنا مش قادر. ضهري اتقطم من الصبح وإحنا بنروي الأرض دي. ماكنا ناجلها لبكرة؟

عصام: (بياخد نفس طويل وبيولع سيجارة)

نجلها لبكرة إيه بس يا سعيد؟ أنت عارف إن الميه بتقطع بكرة الصبح، ولو مالحقناش نروي الزرع ده النهاردة، هايعطش ويبوظ. وبعدين إحنا خلاص قربنا نخلص أهو، كلها ساعة زمن بالكتير.

سعيد: (بيبص ناحية الترعة بتردد)

ساعة زمن بالليل جنب الترعة دي… قلبي مش مطاوعني يا عصام. أنت مش سامع الهدوء ده؟ يخوف.

عصام: (بيضحك بسخرية خفيفة)

يخوف إيه يا جبان؟ ده هدوء طبيعي بتاع الليل في الغيط. أحسن من دوشة البلد. وبعدين أنت لسه بتصدق حكايات النداهة دي؟ كبرنا على الكلام ده يا سعيد. دي حواديت عشان العيال الصغيرة تنام بدري.

سعيد: (بصوت واطي)

يمكن حواديت… بس أنا بسمع كلام من الكبار إن فيه ناس شافتها بعنيها. وبيحلفوا إن صوتها مسكر زي العسل، بيخلي الواحد يمشي وراها وهو مش حاسس بنفسه. عمك “مبروك” الله يرحمه، مش قالوا إنه مات غرقان في الترعة عشان سمع صوتها؟

عصام: (بينفخ الدخان بغضب)

عمي مبروك كان سكران طينة يومها يا سعيد! وقع في الترعة وهو مش داري بالدنيا. الناس بتحب تحبش القصص وتعمل من الحبة قبة. إيه؟ خايف النداهة تطلعلك وتناديلك؟ هاهاها!

سعيد: (بيبلع ريقه بصعوبة)

متتريقش يا عصام. أنا بس… قلقان. المكان هنا بالليل وحش أوي. والميه دي… بحس كأنها بتبصلي.

(عصام بيهز راسه بيأس وبيقف، بيبص على الترعة وهو بينفض هدومه.)

عصام:

قوم يا خواف قوم، خلينا نخلص الشغلانة دي ونروح. فضيلنا بس كام قيراط هنا، ونبقى خلصنا الليلة. أنا هاروح أظبط “الباب” بتاع المسقى عند أول الغيط، وأنت خليك هنا كمل ري الحتة دي.

سعيد: (بيمسك دراع عصام بسرعة)

لأ يا عصام! استنى نروح سوا ونرجع سوا. ماتسبنيش لوحدي هنا.

عصام: (بيشد دراعه)

يا ابني بطل جنان بقى! هي كلها خمس دقايق رايح جاي. مش هايحصل حاجة. إيه اللي جرالك النهاردة؟ وبعدين أنا لو سبت الميه كده هاتغرق الحتة اللي لسه مارويناهاش. إنجز أنت بس وأنا راجعلك فورًا.

(عصام بيمشي بخطوات سريعة ناحية أول الغيط، بيختفي بين عيدان الذرة الطويلة. سعيد بيقف لوحده، بيبص حواليه بخوف. صوت حفيف الذرة بيزيد شوية، كأنه بقى همسات مفهومة. بيبص ناحية الترعة، سطح الميه بيلمع تحت ضوء القمر.)

سعيد: (بيكلم نفسه بصوت مسموع يا دوب)

يارب استر… يارب استر. عصام ده قلبه حديد. مبيخافش من حاجة… بس أنا… أنا بخاف.

(فجأة، بيسمع سعيد صوت. صوت ناعم، حنون، جاي من ناحية الترعة. الصوت بينادي باسمه.)

الصوت (ناعم ومغري):

يا سعيـــد… يا سعيـــد…

(سعيد بيتجمد في مكانه. قلبه بيدق بسرعة كأنه هايطلع من صدره. بيلف راسه ببطء ناحية مصدر الصوت.)

سعيد: (بهمس)

مين؟ مين بينادي؟

الصوت: (أقرب شوية، وأكتر إغراءً)

أنا يا سعيد… تعالى… متخافش… تعالى عندي…

(سعيد بيحس بقوة غريبة بتشده ناحية الترعة. رجليه بتتحرك لوحدها كأنها مش بتاعته. عقله بيقوله “لأ! دي النداهة!”، لكن جسمه مش بيسمع الكلام. بيقرب خطوة… خطوة تانية… من حافة الترعة.)

سencio: (بصوت شبه مخنوق)

أنتي مين؟ عايزة إيه؟

الصوت: (كأنه طالع من الميه نفسها)

أنا اللي هاتريحك يا سعيد… أنا اللي مستنياك… قرب… قرب كمان…

(سعيد بيوصل عند حافة الترعة. بيبص في الميه. بيلمح خيال لواحدة ست شعرها طويل أسود زي الليل، مفرود على وش الميه. وشها مش واضح قوي، لكن فيه جاذبية غريبة، بتخليه عايز يقرب أكتر، يشوفها أوضح. عينيها كأنها نقطتين بيلمعوا في الضلمة.)

سعيد: (بصوت مسحور)

أنتي… أنتي حلوة أوي…

(بيوطي براسه ناحية الميه، كأنه عايز يشرب منها أو يلمس الخيال ده. في اللحظة دي، بيسمع صوت تاني خالص، صوت عالي وغاضب بينادي عليه.)

عصام: (بيصرخ من بعيد)

سعيـــــــد! أنت بتعمل إيه عندك يا مجنووون؟! إبعد عن الميه!

(صوت عصام بيرجع سعيد لوعيه للحظة. بيترعش كأنه فاق من حلم. بيبص تاني في الميه، مفيش أي خيال. الميه هادية بتعكس ضوء القمر وبس. بيحس برعب مفاجئ بيجتاح جسمه كله.)

(عصام بيجري ناحيته، بيوصل عنده وهو بينهج.)

عصام: (بيمسكه من كتفه ويهزه بعنف)

أنت اتجننت؟! كنت هاتقع في الترعة! إيه اللي وداك عندها كده؟! مش كنت قايلك خليك في مكانك؟!

سعيد: (بيترعش ومش قادر يتكلم عدل)

أنا… أنا سمعت… سمعت صوتها يا عصام! والله سمعتها! كانت بتناديني! شوفتها في الميه!

عصام: (بيبص حواليه بغضب وقلق)

صوت مين اللي سمعته يا أهبل؟! مفيش حد هنا غيرنا! أنت أكيد كنت بتحلم ولا اتهيألك حاجة من التعب!

سعيد: (بيعيط بصوت مكتوم)

لأ والله يا عصام! مش تهيؤات! دي النداهة! أنا شوفتها بعيني! كانت هاتشدني للميه! لولا أنت لحقتني…

(عصام بيبص لسعيد اللي منهار قدامه، وبعدين بيبص للترعة بنظرة طويلة فيها شك وقلق لأول مرة. الهدوء اللي كان طبيعي من شوية، بقى ليه طعم تاني، طعم الخوف.)

عصام: (بصوت أجش)

قوم… قوم نروح من هنا فورًا. الشغل مش مهم دلوقتي. خلينا نمشي.

(بيسند سعيد اللي رجليه مش شايلاه، وبيمشوا بسرعة، بيسيبوا وراهم الحقل والترعة اللي بتلمع في ضوء القمر، وصوت حفيف الذرة اللي بقى عامل زي ضحكة خافتة وشريرة.)

(المشهد الثاني)

الوقت: صباح اليوم التالي.

المكان: بيت عصام في كفر النخيل.

(عصام قاعد على كنبة بلدي قديمة في صالة البيت، وشه شاحب وعنيه فيها قلق. قدامه على طبلية واطية، كوباية شاي بردت محدش لمسها. أمه، الحاجة “زينب”، ست كبيرة في السن، قاعدة جنبه وبتبص له بقلق.)

الحاجة زينب:

مالك يا عصام يا ابني؟ وشك أصفر زي اللمونة من ساعة ما رجعت إمبارح بالليل أنت وسعيد. وسعيد ماله؟ مراته بتقول إنه نايم من إمبارح بيهذي ويقول كلام غريب عن الترعة والنداهة. إيه اللي حصل معاكم في الغيط امبارح؟

عصام: (بيتنهد وبيفرك وشه بإيديه)

محصلش حاجة يا أمّا… سعيد بس كان تعبان شوية، يمكن ضربة شمس ولا حاجة. نام وهيبقى كويس.

الحاجة زينب: (بتهز راسها بعدم اقتناع)

ضarbeة شمس إيه اللي بتيجي بالليل يا عصام؟ متضحكش عليا يا ابني. أنا شفت سعيد وهو راجع معاك، كان بيترعش زي الفرخة المبلولة وعنيه كانت زايغة. ده غير الكلام اللي قاله وهو نايم. أنتم قربتوا من الترعة بالليل، مش كده؟ أنا مش قولتلك ميت مرة بلاش شغل الغيط اللي جنب الترعة ده بالليل؟ النداهة مابترحمش يا ابني!

عصام: (بنبرة فيها غضب مكتوم)

يا أمّا تاني النداهة؟! ماقولنا دي تخاريف! سعيد هو اللي خواف وبيتهيأله حاجات.

الحاجة زينب:

تخاريف؟! أنت بتقول تخاريف بعد اللي حصل لعمك مبروك، وقبله “فتحي” ابن الجيران اللي عقله طار ومبقاش يجمع، وقبلهم وقبلهم؟ كل دول كانوا بيتهيألهم؟ الترعة دي مسكونة يا عصام، وأنا قلبي مش مطمن عليك وأنت رايح جاي جنبها. بالذات بالليل.

(باب البيت بيخبط خبطات سريعة ومتوترة. الحاجة زينب بتقوم تفتح. بيدخل “الشيخ إمام”، إمام مسجد القرية ورجل معروف بحكمته وعلمه بالأمور الدينية والشعبية.)

الشيخ إمام: (بصوت قلق)

السلام عليكم. فين عصام يا حاجة زينب؟ لازم أتكلم معاه ضروري.

الحاجة زينب:

وعليكم السلام يا شيخ إمام. اتفضل. عصام قاعد جوه أهو. خير يا شيخنا؟ قلقتني.

(الشيخ إمام بيدخل الصالة، بيسلم على عصام وبيقعد قدامه. نظرته جادة.)

الشيخ إمام:

خير إن شاء الله يا عصام. أنا جيت أول ما سمعت اللي حصل لسعيد إمبارح. مراته كلمتني الصبح وهي منهارة. بتقول إنه طول الليل بيهذي باسم النداهة وبيشاور ناحية الترعة. إيه اللي حصل بالظبط يا ابني؟ احكيلي ومتخبيش حاجة.

(عصام بيبص لأمه اللي بتبص له برجاء، وبعدين بيبص للشيخ إمام. بيحس إنه مش قادر ينكر أكتر من كده. بيحكي اللي حصل بالتفصيل، من أول ما ساب سعيد لوحده، لحد ما سمعه بينادي ورجع لقاه واقف على حافة الترعة كأنه مسحور، والكلام اللي قاله سعيد عن الصوت والخيال اللي شافه في الميه.)

عصام: (في نهاية كلامه)

… وأنا لحد دلوقتي مش مصدق يا شيخ إمام. بقول يمكن تعب، يمكن إرهاق، يمكن خيال… بس سعيد مكنش في وعيه خالص. كأن حد كان ساحبه فعلاً ناحية الميه.

الشيخ إمام: (بيهز راسه ببطء وحزن)

لا حول ولا قوة إلا بالله. لا يا ابني، ده مش خيال ولا إرهاق. سعيد شافها… وسمعها. النداهة حقيقية يا عصام. دي مش مجرد أسطورة.

عصام: (بصدمة)

حقيقية إزاي يا شيخنا؟ يعني إيه؟ جنية؟ عفريتة؟

الشيخ إمام:

بيقولوا إنها نوع من الجن المائي، أو قرينة لامرأة ماتت غرقانة في الترعة دي من زمن بعيد، ماتت مظلومة أو مقتولة، وروحها بقت متعلقة بالمكان، بتنتقم من كل الرجالة اللي يقربوا من مكانها. بتستخدم جمالها وصوتها كسلاح، بتسحر اللي بيسمعها وبتغرقه في نفس المكان اللي ماتت فيه.

الحاجة زينب: (بتلطم على صدرها بخفة)

يا ساتر يارب! يا ساتر! استرها معانا يا كريم.

عصام: (بعدم تصديق)

بس… بس إزاي حاجة زي دي تكون موجودة ومحدش قادر يعملها حاجة؟ الشرطة؟ الحكومة؟

الشيخ إمام: (بابتسامة حزينة)

الشرطة هاتقولك دي خرافات يا عصام. والحكومة هاتقولك دي حوادث غرق عادية. الأمور دي مابيفهمهاش غير اللي عاشها أو شافها بعينه. أهل البلد هنا عارفين الحقيقة، عشان كده بيخافوا يقربوا من الترعة بالليل. النداهة قوتها في الليل وفي الميه. اللي بيسمع نداءها مرة، بتفضل معششة في ودانه وفي عقله، بتحاول تجره ليها تاني وتالت.

عصام: (بيقوم يقف ويمشي رايح جاي في الصالة بقلق)

طب وسعيد؟ هايحصل له إيه دلوقتي؟ هاترجع له تاني؟

الشيخ إمام:

وارد جداً. النداء الأول ده بيكون زي طُعم. لو ما استجابش المرة الأولى، هاتحاول تاني. لازم نحصنه كويس ونقرا عليه قرآن كتير. وميقربش من ناحية الترعة دي أبداً تاني، لا بليل ولا بنهار. بس المشكلة الأكبر يا عصام… إنها ممكن تكون حطتك أنت كمان في دماغها.

عصام: (بيتوقف فجأة)

أنا؟! ليه أنا؟ أنا ملحقتش أسمع حاجة ولا أشوف حاجة.

الشيخ إمام:

أنت اللي أنقذت سعيد من قبضتها. أنت اللي قطعت عليها سحرها في اللحظة الأخيرة. ده ممكن يكون خلاها تعتبرك عدو، أو تحدي. النداهة، زي أي كيان شرير، ليها كبرياء وغرور. ممكن تحاول تثبتلك إنها أقوى منك، وإنك مش هاتقدر تقف في طريقها.

(عصام بيحس بقشعريرة باردة بتمشي في ضهره رغم حرارة الجو. كلام الشيخ إمام، مع اللي شافه في عنين سعيد إمبارح، بدأ يزعزع يقينه.)

عصام:

طب… والحل إيه يا شيخ إمام؟ لو كلامك ده صح… نعمل إيه عشان نحمي نفسنا وسعيد؟

الشيخ إمام:

الحل الأول والأهم هو الابتعاد التام عن الترعة ومكان ظهورها، خصوصًا بعد غروب الشمس. ثانيًا، التحصين الدائم بالقرآن والأذكار. قراءة آية الكرسي والمعوذتين وسورة البقرة في البيت باستمرار. ثالثًا، فيه بعض الأمور اللي بيقولوا الكبار إنها بتبطل سحرها أو بتخوفها…

عصام: (بلهفة)

زي إيه يا شيخنا؟ قول أرجوك!

الشيخ إمام:

بيقولوا إن ذكر اسم الله بصوت عالي وقت سماع ندائها ممكن يكسر السحر. وبيقولوا إن الحديد الصلب بيؤذيها أو بيمنعها من الاقتراب، عشان كده تلاقي الفلاحين زمان كانوا بيحدفوا فأس أو حتة حديدة في الترعة قبل ما ينزلوا يستحموا فيها. وفيه اللي بيقول إنها بتخاف من النار… بس دي كلها أقاويل متوارثة، الله أعلم بصحتها. الأهم من كل ده هو قوة الإيمان بالله، واللجوء إليه وحده.

(عصام بيسمع الكلام وهو بيحاول يستوعبه. جزء من عقله لسه رافض يصدق، والجزء التاني مرعوب من الاحتمالات اللي الشيخ إمام فتحها قدامه.)

عصام:

أنا هاروح أطمن على سعيد… ولازم ناخد حذرنا أكتر من كده.

الشيخ إمام:

روح يا ابني ربنا معاكم. وأنا هاروحله كمان شوية نقرا عليه شوية قرآن. خلي إيمانك بالله قوي يا عصام، ومتديش فرصة للخوف إنه يسيطر عليك. الخوف هو أكبر سلاح للشيطان ولأعوانه.

(عصام بيهز راسه وبيخرج من البيت بخطوات سريعة، متجه لبيت سعيد. الشمس ساطعة في السما، لكن عصام حاسس بضلمة غريبة بدأت تتجمع جواه.)

(المشهد الثالث)

الوقت: بعد عدة أيام، وقت العصر.

المكان: بيت سعيد.

(سعيد راقد في سريره، وشه أصفر وهزيل. جنبه مراته “نادية” بتغير له كمادات الميه على جبينه. الشيخ إمام قاعد على كرسي جنبه بيقرا قرآن بصوت خافت. عصام واقف عند الشباك، بيبص على بيوت القرية والغيطان البعيدة، وملامحه متجهمة.)

نادية: (بصوت مليان قلق)

لسه حرارته عالية يا شيخ إمام. وطول الليل بيهذي ويقول “سبيني… سبيني… مش جاي معاكي”. قلبي واكلني عليه يا شيخنا.

الشيخ إمام: (بيصدق وبيحط المصحف جنبه)

اصبري يا بنتي، إن مع العسر يسرًا. اللي فيه ده مش مرض عادي. دي آثار المس اللي تعرض له. محتاج وقت وصبر ورقية شرعية مستمرة. أهم حاجة ميضعفش وميستسلمش للأوهام اللي بيشوفها أو الأصوات اللي بيسمعها.

سعيد: (بيفتح عنيه بصعوبة، بيبص حواليه بفزع)

هي… هي فين؟ كانت هنا دلوقتي… بتقولي تعالى…

عصام: (بيقرب منه بسرعة ويحط إيده على كتفه)

مفيش حد هنا يا سعيد غيرنا. أهلك والشيخ إمام جنبك. أنت في بيتك وفي أمان. دي كلها تهيؤات من أثر التعب.

سعيد: (بيبص لعصام بعنين زايغة)

لأ يا عصام… مش تهيؤات. أنا بسمعها… بسمعها جوه وداني طول الوقت. بتناديني… بتقولي إنها مستنياني عند الترعة… بتقولي كلام حلو… بتقولي إن الميه هناك باردة وهاتريحني من التعب ده…

نادية: (بتبكي)

يا حبيبي يا سعيد… متسمعش كلامها. دي شيطانة عايزة تأذيك. استعيذ بالله يا أخويا.

الشيخ إمام:

قول معايا يا سعيد: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق. كررها يا ابني. خلي لسانك رطب بذكر الله.

(سعيد بيبدأ يكرر الدعاء بصوت متقطع وضعيف، وعنيه بتقفل وتفتح كأنه بيقاوم حاجة جواه.)

عصام: (بيبص للشيخ إمام)

الوضع بيسوء يا شيخنا. أنا خايف عليه أوي.

الشيخ إمام: (بينظر لعصام نظرة ذات معنى)

الخوف عليه واجب… بس لازم تاخد بالك من نفسك أنت كمان يا عصام. أنت حسيت بأي حاجة غريبة اليومين اللي فاتوا دول؟ سمعت أصوات؟ شفت خيالات؟

عصام: (بتردد)

لأ… مسمعتش حاجة واضحة زي سعيد. بس… ساعات بالليل لما أبقى لوحدي، بحس كأن حد بيبص عليا من الشباك. وساعات أسمع زي… همس خفيف جاي من بعيد، من ناحية الترعة. بس بقول يمكن دي تهيؤات مني أنا كمان من كتر القلق على سعيد.

الشيخ إمام:

ماتستهونش بأي حاجة يا عصام. خليك حذر. وحصن نفسك وبيتك كويس. النداهة لو حطت حد في دماغها، مابتسيبهوش بسهولة.

(في اللحظة دي، بيدخل “فتحي” جارهم، الشاب اللي بيقولوا عليه “عقله طار” بسبب النداهة من سنين. فتحي شاب في أواخر العشرينات، لكن تصرفاته زي الأطفال، عنيه زايغة ودايمًا بيبص في الأرض وبيتمتم بكلام مش مفهوم. هدومه مبهدلة وشعره منعكش.)

فتحي: (بيبص لسعيد وهو راقد وبيبتسم ابتسامة غريبة)

هي… هي جاتلك أنت كمان؟ حلوة مش كده؟ صوتها زي السكر… بتخليك عايز تروح معاها… تروح في الميه الحلوة… الباردة…

نادية: (بتنهره بخوف)

امشي من هنا يا فتحي دلوقتي! سعيد تعبان. امشي الله يهديك!

(فتحي بيتراجع للخلف وعنيه لسه على سعيد، بيتمتم وهو خارج:)

هاترجعلك تاني… بتيجي بالليل… لما القمر يبقى مدور زي الطبق… بتستناك عند الصفصافة الكبيرة… متتأخرش عليها…

(بيخرج فتحي وبيسيب وراه جو تقيل من الخوف والتوتر. عصام بيبص للشيخ إمام بعنين واسعة.)

عصام:

شفت يا شيخ إمام؟ شفت بيقول إيه؟ ده نفس الكلام اللي سعيد كان بيهذي بيه! عند الصفصافة الكبيرة!

الشيخ إمام: (ملامحه قلقة جدًا)

الصفصافة الكبيرة اللي على كوع الترعة؟ دي أكتر حتة بيقولوا إن النداهة بتظهر فيها. كده الموضوع بقى أخطر ما كنت متصور. دي مش مجرد محاولة إغواء عشوائية لسعيد. دي كأنها بتستهدفه هو بالذات… أو بتستهدف أي حد يقرب من المكان ده في الوقت ده.

عصام: (بقبضة مشدودة)

أنا مش هاسكت وأنا شايف صاحبي بيروح مني كده! ومش هاستنى لما الدور ييجي عليا! لازم نعمل حاجة!

الشيخ إمام:

نعمل إيه يا عصام؟ مواجهة كيان زي ده مش لعبة. دي مخاطرة بالحياة نفسها.

عصام:

أنت قولت إنها بتخاف من ذكر الله ومن الحديد ومن النار. يمكن لو رحنا هناك وقت ظهورها، ومعانا حديد ونار وقرآن… يمكن نقدر نبطل سحرها أو حتى نخوفها ونخليها تبعد عن سعيد وعن البلد كلها!

الشيخ إمام: (بتردد)

ده جنون يا عصام! ده تحدي مباشر ليها في عرينها! محدش جرب يعمل كده قبلنا!

عصام:

يبقى إحنا أول ناس نجرب! أنا مش هاقف أتفرج! هاتجيب فأس وشوية جاز وولاعة، وهاخد المصحف معايا. وهاروح عند الصفصافة دي الليلة اللي جاية، ليلة البدر الكامل، زي ما فتحي قال. يا قاتل يا مقتول! مين هاييجي معايا؟

(الشيخ إمام بيبص لعصام بنظرة فيها إعجاب بشجاعته وخوف عليه في نفس الوقت. نادية بتبص لجوزها الراقد وبيترجف. الصمت بيخيم على الأوضة للحظات، محدش عارف القرار الصح إيه.)

(المشهد الرابع)

الوقت: الليلة التالية، قبيل منتصف الليل. القمر بدر كامل يغمر المكان بضوء فضي شبحي.

المكان: عند الصفصافة الكبيرة على كوع ترعة المبروكة.

(شجرة الصفصاف ضخمة وقديمة، فروعها متدلية كأنها شعر ست عجوزة حزينة، بتلامس سطح الميه تقريبًا. المكان حواليها ضلمة أكتر من أي حتة تانية، كأن الشجرة بتبلع ضوء القمر. الهدوء مميت، مفيش حتى صوت صراصير الليل.)

(عصام واقف تحت الشجرة، قلبه بيدق بعنف لكن بيحاول يسيطر على خوفه. ماسك في إيده فأس حديد تقيل، وفي الإيد التانية مصحف صغير مفتوح على آية الكرسي. جنبه واقف الشيخ إمام، ماسك فانوس جاز قديم بينور المكان بضعف، وفي إيده التانية سبحة بيحرك حباتها بسرعة وهو بيتمتم بأدعية وآيات قرآنية بصوت واطي.)

الشيخ إمام: (بهمس)

خليك ثابت يا عصام. واذكر الله في قلبك باستمرار. لو سمعت أي حاجة أو شفت أي حاجة، متنجذبش ليها. ارفع صوتك بآية الكرسي فورًا.

عصام: (بصوت أجش)

متقلقش يا شيخنا. أنا جاهز. بس هي فين؟ متأخرتش يعني؟

الشيخ إمام: (بيبص للسما)

القمر اكتمل تمامًا. ده وقت ظهورها المعتاد حسب الحكايات. اصبر… واثبت.

(بيمر الوقت ببطء شديد، كل دقيقة كأنها ساعة. الصمت بيزيد وبيطبق على صدرهم. عصام بيحس ببرودة غريبة في الهوا رغم إن الجو لسه حار.)

(فجأة، بيسمعوا صوت. صوت جاي من نص الترعة، قصاد الصفصافة بالظبط. صوت أنثوي ناعم، حزين، كأنه غنوة قديمة مليانة شجن.)

الصوت:

يا ليل يا عين… يا مسهر العين… مين يسقي العطشان… ومين يطفي الحنين…؟

(عصام بيحس بقشعريرة بتسري في جسمه كله. الصوت ده… فيه سحر غريب، بيخليه عايز يسمع أكتر، عايز يعرف مين صاحبته.)

الشيخ إمام: (بصوت عالي نسبيًا)

اثبت يا عصام! استعذ بالله! دي البداية!

(عصام بياخد نفس عميق، بيرفع صوته وبيبدأ يقرا آية الكرسي بصوت عالي ومرتعش شوية في الأول، لكنه بيزيد ثبات وقوة مع كل كلمة.)

عصام: (بصوت عالي)

“اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ…”

(مع بداية قراءة عصام، الغنوة الحزينة بتتوقف فجأة. بيحصل تموج غريب في سطح الميه قصاد الصفصافة. بيظهر زي ضباب خفيف فوق وش الميه.)

(من وسط الضباب، بيبدأ يتشكل خيال. خيال لواحدة ست شعرها أسود طويل جداً، بيغطي وشها وجسمها كأنه ستارة سودا. جسمها مش واضح، كأنه متكون من الميه نفسها أو من الضباب. بتتحرك ببطء ناحية الشط، ناحية عصام والشيخ إمام.)

الشيخ إمام: (بيشد على إيد عصام)

هي دي! النداهة! كمل قراية يا عصام! متوقفش!

(عصام بيكمل قراءة آية الكرسي بصوت أعلى، وعينه على الخيال اللي بيقرب. الخيال بيرفع إيد كأنها معمولة من ضل أسود، وبيشاور ناحية عصام.)

(فجأة، عصام بيسمع صوت تاني خالص، مش الصوت اللي كان بيغني. صوت تاني في ودنه هو بس، صوت مراته “فاطمة”.)

صوت فاطمة (في ودن عصام):

عصام… يا عصام… الحقني يا عصام… أنا هنا في الميه… بغرق… الحقني…

(عصام بيتخض. قلبه بينقبض. دي فاطمة! مراته! إيه اللي جابها هنا؟! معقول تكون وقعت في الترعة وهو مش واخد باله؟!)

عصام: (بيتلفت حواليه بفزع وبيصرخ)

فاطمة؟! فاطمة أنتي فين؟!

الشيخ إمام: (بيزعق فيه)

عصااااام! فوق! دي مش فاطمة! دي هي اللي بتلعب بعقلك! دي حيلة من حيلها! كمل قراية!

(لكن عصام للحظة، بيصدق إن مراته في خطر. بيتردد… بيبص ناحية الميه تاني. الخيال اللي كان بيقرب اختفى، لكنه بيسمع صوت فاطمة تاني، صوت بيستنجد بيه.)

صوت فاطمة:

الحقني يا عصام… الميه بتسحبني… متسبنيش أموت هنا…

(عصام مابيقدرش يستحمل. بينسى للحظة كل التحذيرات. بيرمي الفأس والمصحف من إيده، وبيجري ناحية حافة الترعة.)

عصام:

فاطمة! أنا جاي! أنا جاي أهو!

الشيخ إمام: (بيصرخ برعب)

لااااا يا عصاااااام! لااااا!

(الشيخ إمام بيجري وراه، بيحاول يمسكه. لكن أول ما عصام بيوصل عند حافة الميه، بيلاقي نفسه واقف قدام نفس الخيال الأسود اللي كان بيقرب من شوية. الخيال بيرفع وشه شوية. تحت الشعر الأسود الكثيف، بيلمح عصام وش… مش وش فاطمة. وش شاحب جدًا، ملامحه جميلة بشكل مخيف، وعنين واسعة سودة تمامًا، مفيهاش بياض، بتبص له بانتصار وبرود.)

(النداهة بتفتح بقها، وبيطلع منه صوت ضحكة عالية، مش ضحكة بشرية، ضحكة باردة ومخيفة بترن في المكان كله.)

(بترفع إيدها اللي شبه الضل تاني، وبتلمس صدر عصام لمسة خفيفة. عصام بيحس ببرودة جليدية بتخترق جسمه كله، كأن روحه بتنسحب منه. عنيه بتوسع برعب، ومش قادر يتحرك ولا يتكلم.)

(في اللحظة دي، الشيخ إمام بيوصل عنده. بيرفع الفانوس اللي في إيده وبيحدفه بكل قوته على الخيال الأسود. الفانوس بيخبط في الخيال وبيقع على الأرض، الجاز بيتدلق وبيشتعل فجأة.)

(النار بتولع بسرعة عند رجلين النداهة. بتصدر صرخة عالية حادة، صرخة مش بشرية بالمرة، صرخة مليانة ألم وغضب. الخيال الأسود بيتلوى وبيترنح، وبيبدأ يتلاشى بسرعة كأنه دخان أسود بيدوب في الهوا.)

(عصام بيقع على الأرض فاقد الوعي. الشيخ إمام بيجري عليه، بيطبطب على وشه وهو بينادي اسمه بخوف.)

الشيخ إمام:

عصام! عصام فوق يا ابني! رد عليا!

(المكان بيرجع هادي تاني. النار اللي ولعت من الفانوس بتنطفي لوحدها بسرعة غريبة. مفيش أي أثر للخيال الأسود. بس الهوا لسه فيه ريحة دخان غريبة، ولسه فيه إحساس بالبرد وبالشر اللي كان موجود من لحظات.)

(الشيخ إمام بيقدر يفوق عصام بصعوبة. عصام بيفتح عنيه، بيبص حواليه ومش فاهم هو فين ولا إيه اللي حصل. ذاكرته للحظات الأخيرة مشوشة.)

عصام: (بصوت ضعيف)

فاطمة… فين فاطمة؟ كانت بتغرق…

الشيخ إمام: (بيهزه عشان يفوقه تمامًا)

فاطمة في البيت يا عصام! في أمان! اللي شوفته وسمعته ده كان وهم! كانت النداهة بتحاول تخدعك! الحمد لله إن ربنا ستر ولحقناك في آخر لحظة. النار خوفتها وخليتها تختفي.

(عصام بيبدأ يستوعب اللي حصل. بيفتكر الخيال الأسود، والضحكة المرعبة، واللمسة الجليدية. بيترعش رغم إنه مش بردان.)

عصام:

شوفتها… شوفت وشها يا شيخ إمام… عنيها… كانت كلها سودة… ومكنش فيها رحمة.

الشيخ إمام: (بيساعده يقف)

الحمد لله على سلامتك يا ابني. ربنا نجانا المرة دي. لكن لازم نمشي من هنا فورًا. المكان ده لسه خطر. قوتها يمكن تكون قلت بالنار، لكنها لسه موجودة.

(بيسند عصام اللي لسه ضعيف، وبيبدأوا يمشوا بسرعة بعيد عن شجرة الصفصاف وعن الترعة. عصام بيبص وراه للحظة، بيشوف سطح الميه هادي وبيلمع تحت ضوء القمر كأن محصلش أي حاجة. لكنه عارف إن الهدوء ده مجرد قناع، وإن تحت السطح ده، فيه رعب قديم لسه مستني ضحية جديدة.)

(المشهد الخامس والأخير)

الوقت: بعد أسبوع من ليلة المواجهة. وقت الغروب.

المكان: محطة القطار الصغيرة في بلدة مجاورة لكفر النخيل.

(عصام واقف على رصيف المحطة، جنبه مراته فاطمة وابنهم الصغير. معاهم شنط سفر قليلة. الحاجة زينب والشيخ إمام وسعيد اللي صحته اتحسنت كتير واقفين بيودعوهم.)

الحاجة زينب: (عنيها مدمعة)

هاتوحشني أوي يا عصام يا ابني. خلي بالك من نفسك ومن مراتك وابنك. وابقى طمني عليك بالتليفون على طول.

عصام: (بيبوس إيد أمه)

متقلقيش يا أمّا. هانتواصل على طول. وأنتي كمان خلي بالك من نفسك، والشيخ إمام جنبك أهو لو احتاجتي حاجة.

سعيد: (بيحضن عصام)

مش عارف أقولك إيه يا عصام. لولاك أنت والشيخ إمام، كان زماني… متشكر أوي يا صاحبي. سامحني لو كنت سبب في أي أذى حصلك.

عصام: (بيطبطب على كتفه)

متقولش كده يا سعيد. إحنا أخوات. المهم إنك بقيت كويس دلوقتي. خلي بالك من الأرض، وابعد خالص عن ناحية الترعة دي.

سعيد:

في حياتي ما هاقرب منها تاني. ولا بالنهار حتى. الأرض دي مش عايزها لو هاتكون سبب في أذيتنا.

الشيخ إمام: (بيسلم على عصام)

قرارك بالسفر ده هو عين العقل يا عصام. صحيح هاتسيب أرضك وأهلك، بس حياتك وحياة أسرتك أهم. النداهة مش هاتسيبك في حالك بسهولة بعد اللي حصل، خصوصًا إنك واجهتها وشفتها بعينك وقاومت سحرها. البُعد هو أسلم حل دلوقتي.

عصام:

هو ده اللي فكرت فيه يا شيخنا. هاروح أقعد عند قرايب ليا في إسكندرية فترة، أدور على شغلانة تانية، وأبدأ حياة جديدة بعيد عن هنا وعن الرعب ده. كفاية اللي شفناه.

فاطمة: (بتمسك إيد عصام)

ربنا يكتب لنا الخير في اللي جاي يا عصام.

(صوت صفارة القطار بيعلن عن وصوله. عصام بيحضن أمه وسعيد والشيخ إمام للمرة الأخيرة.)

عصام:

مع السلامة. خلوا بالكم من نفسكم.

(عصام بياخد مراته وابنه وبيطلعوا القطار اللي بيبدأ يتحرك ببطء. بيبص من الشباك على كفر النخيل اللي بدأت تختفي ورا الحقول. بيشوف من بعيد خط الميه بتاع ترعة المبروكة بيلمع في ضوء الشمس الغاربة.)

(بيغمض عنيه للحظة، بيفتكر الوش الشاحب والعنين السودا اللي شافهم تحت الصفصافة. بيحس بقشعريرة خفيفة. بيفتح عنيه تاني وبيلاقي ابنه الصغير بيبص له بقلق.)

الابن:

مالك يا بابا؟ أنت خايف من حاجة؟

عصام: (بيبتسم ابتسامة باهتة وبياخد ابنه في حضنه)

لأ يا حبيبي. مش خايف. إحنا رايحين مكان جديد وحلو، بعيد عن أي حاجة وحشة.

(لكن جواه، عصام عارف إن الخوف ده هايفضل معاه. ذكرى الليلة دي، وذكرى النداهة، هاتفضل محفورة في عقله زي الندبة اللي مابتروحش. هو هرب بجسمه، لكن يا ترى روحه هاتقدر تهرب من لعنة النداهة المستخبية على وش الميه؟)

(القطار بيسرع وبيختفي في الأفق، بيسيب وراه كفر النخيل والترعة والأسطورة اللي هاتفضل تتنقل بين الأجيال، همسة خوف في ليل الريف المصري الطويل.)

نهاية القصة: ظل على الماء

مرت سنوات. عصام استقر في الإسكندرية، وجد عملاً وبدأ حياة تبدو طبيعية. لم يعد يتحدث عما حدث في كفر النخيل، حاول دفن الذكريات في أعماق عقله. سعيد أيضاً تعافى تماماً وباع أرضه المجاورة للترعة، مفضلاً العمل في مكان أبعد وأكثر أماناً. الشيخ إمام استمر في تحذير أهل القرية، وظلت حكايات النداهة تُروى، وإن كانت حوادث الاختفاء أو الجنون قد قلت بشكل ملحوظ بعد مواجهة عصام لها.

لكن في بعض الليالي المقمرة، كان عصام يجلس وحيداً على كورنيش الإسكندرية، يتأمل البحر الواسع. أحياناً، كان يخيل إليه أنه يسمع صوتاً خافتاً، ناعماً، يأتيه مع موج البحر، صوتاً يشبه غنوة حزينة قديمة… أو نداءً خفياً. كان يرتعش قليلاً، يستعيذ بالله في سره، ثم يقوم عائداً إلى بيته بسرعة، محاولاً إقناع نفسه أنها مجرد أوهام… مجرد صدى لذكرى بعيدة.

وفي كفر النخيل، عند الصفصافة الكبيرة على كوع الترعة، يقول البعض إنهم في الليالي المقمرة جداً، لا يزالون يلمحون ظلاً أسود يتحرك ببطء على سطح الماء، كأنه ينتظر… ينتظر بصبر لا ينتهي… عودة أحدهم، أو مرور ضحية جديدة لا تعرف الخوف… أو لا تعرف بعد قوة النداء الذي لا يقاوم. فاللعنة قد تخفت، لكنها نادراً ما تموت.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

نعتذر ممنوع نسخ محتوى أطياف