لم تكن “العَسّاس” مدينة كباقي المدن. فالبحر فيها لا يبتلع الأمواج فحسب، بل يبتلع الأسرار أيضاً. قبل خمسين عاماً، توقفت حوادث الاختفاء الغامضة التي اشتهرت بها المدينة فجأة، بعد أن عُثر على آخر الضحايا، وهو طفل صغير، وقد نُقشت على جدار منزله المهجور كلمة واحدة بالدم: “العربون”. ومنذ ذلك الحين، ساد صمتٌ ثقيل يسبق العاصفة، صمتٌ لم يكسره سوى الهمس البارد الذي كان يتسلل ليلاً من “حي القناديل المطفأة”، أقدم أحياء المدينة.
“أدهم السامرائي”، ثلاثيني حاد الذكاء، يعمل باحثاً في التراث الشعبي. عاد إلى العسّاس بعد غياب قسري دام عشرين عاماً. عاد ليُشرف على بيع منزل عائلته القديم، الكائن عند سفح “تلّ النائمين”، وهو تلٌّ مليء بالقبور المنسية. ماضيه؟ لا أحد في العسّاس يتذكر أن والدته اختفت في إحدى حوادث “العربون” تلك، ولا يتذكرون أن أدهم كان آخر من رآها وهي تهمس بشيء غير مفهوم تجاه البحر. لقد دفن ذلك السر عميقاً تحت قناع البرود العلمي.
في ليلته الأولى بمنزل العائلة، استفاق أدهم على صوت كشط رتيب يأتي من غرفة التخزين في الطابق السفلي. لم يكن صوتاً لقوارض أو ريح، بل كان أشبه بأظافر تجرُّ على حجر جيري. نزل أدهم ببطء، وفي يده مصباح زيت قديم. وجد باب الغرفة مشرعاً، والغرفة باردة بشكل لا يتناسب مع حرارة الصيف الخانقة.
في وسط الغرفة، كانت هناك حزمة من الرُزم الجلدية القديمة المليئة بالطلاسم بلغة قديمة. ولكن ما أثار رعبه الحقيقي هو أن الجدار الحجري المقابل، الذي كان خالياً بالأمس، قد نُقشت عليه نفس الكلمة القديمة التي رآها أهالي المدينة قبل خمسين عاماً: “العربون”. لكن هذه المرة، لم تُنقش بالدم، بل كانت مغروسة في الحجر وكأنها نُحتت بأداة حادة جداً وبعمق مخيف. وفوقها، وُجدت رسمة غريبة تشبه شكل سمكة بعين بشرية واحدة.
فجأة، انطفأ مصباح الزيت. لم يكن هناك تيار هواء. سمع أدهم همسة باردة من زاوية الغرفة، لا تُشبه صوتاً بشرياً بل كانت كخرير ماء آسن. كانت الهمسة تقول ببطء مخيف: “ابن العهد… أهلاً بك في البداية.”
أضاء أدهم هاتفه على الفور، لكن الهمس تلاشى. توجه نحو الجدار لينظر إلى النقش “العربون” مرة أخرى. وبينما كان يمرر إصبعه على حافة النقش الحادة، شعر بشيء صلب عالق بين الأحرف. سحبه ببطء، فظهرت قطعة من نسيج قماش قديم، باهت اللون، مُطرز بشكل بسيط.
شعر قلبه بالخفقان بعنف، فلون القماش وتطريزه مألوفان لديه بشكل مرعب. لم تكن هذه مجرد قطعة قماش قديمة. كانت جزءاً من رداء والدته الذي كانت ترتديه في الليلة التي اختفت فيها قبل عشرين عاماً!
لم يكد يستوعب الصدمة، حتى سمع صوت باب الغرفة يُغلق ببطء وقوة هائلة من تلقاء نفسه، مخلفاً وراءه صريراً معدنياً يقطع الصمت. لم يكن الباب يحتوي على مزلاج!
فهل كان هذا الدليل المادي دافعاً لعودته، أم كان إشارة ترحيب من كيان قديم ينتظره ليُكمل دوراً بدأه الغائبون؟




